الجمعة، 27 نوفمبر 2009

حي علي الجهاد الكروي بقلم سعيد اسماعيل علي

فى يوم السبت الرابع من نوفمبر ذهبت لملاقاة طلاب الدراسات العليا حيث محاضراتى تبدأ من الساعة الثالثة ، فإذا




بأكثر من نصف العدد غائب ، ولما سألت ، قيل لى أن الجميع ، إما أنه آثر الجلوس فى المنزل ، حتى لا " يتبهدل " فى الشارع من جراء الجحافل التى بدأت تزحف على استاد القاهرة لمشاهدة مباراة مصر مع الجزائر ، وإما بكّر بالذهاب إلى الاستاد قبل موعد المباراة بعدة ساعات !



وفى يوم الأربعاء الثامن عشر من الشهر نفسه ، كان موعدى الساعة الخامسة فى مكتبتى للقاء طلابى المُسجلين معى للدكتوراه والماجستير فى " سيمنار " خاص أعقده لهم بين الحين والآخر ، فإذا بعدد منهم يتأخر ، فلما سألت ، قيل المرور فى غاية فى السوء لأن الجموع الحاشدة تسرع إلى العودة إلى منازلها ، لمشاهدة الموقعة الكبرى بين مصر والجزائر على أحد ملاعب الخرطوم !



ناهيك عما كنت أتابعه من صحف ومجلات ، وما كنت أشاهده من برامج تليفزيونية ،واسمعه من برامج إذاعية، وكأن البلاد أصيبت بلوثة اسمها الكرة ، تتجمع فيها كل التاريخ الحضارى والقوى البشرية ،وآمال المستقبل ،ومنحزات العلم ،وأحلام التكنولوجيا، وعزة الدين ، وقوة التنمية ، فى جميع مجالاتها!



وفى كل الأحوال ، أردد بينى وبين نفسى : لا حول ولا قوة إلا بالله ...كم صغرت يا مصر ، يا أم الدنيا ، كيف ؟



فى مقال سابق لنا بعنوان ( عندما يختل سلم الأولويات ) سخرت فيه من تفجر نقاش واسع النطاق ، شمل مستويات متعددة ، وقف على رأسها أكبر موقع دينى مسلم فى مصر ، خاص بالنقاب ، على أساس أن هذه القضية ما كان ينبغى أن تقفز إلى المواقع الأعلى فى الاهتمام العام ، فإذا بى اليوم أرى ما هو أدعى للسخرية وأقرب إلى الحسرة ، عندما نجد ما يمكن وصفه بأنه " لوثة " قومية ، لم تتعلق بهذا وذاك مما نعرف ونقاسى ونطمح مما يمكن أن يرفع من مقامنا الحضارى أو العكس ،وإنما بكرة قدم تدخل أو لا تدخل شباكنا أو شباك غيرنا !



لقد قُدّر لى أن أشهد أحداثا كبرى مرت بمصر منذ العام 1948 ، مرورا بقيام الثورة وإنهاء الحكم الملكى ،وإعلان النظام الجمهورى ،وعدوان 1956 ، وهزيمة 1967 ، وانتصار 1973 ، ولم أشهد ما شهدته منذ الرابع عشر من نوفمبر 2009 ، حتى اليوم التالى من الثامن عشر من الشهر نفسه ، فقد تفوق على كل هذه الأحداث الجسام ،وكم أشعر بقدر غير يسير من الأسى عندما يقفز إلى الذهن فى التو واللحظة تلك القاعدة التى تقول بأن قيمة الإنسان ،وكذلك الشعب تتحدد بقيمة ما يلتف حوله من مشكلات وقضايا .



طوفان غير مسبوق ،وأرجو ألا يكون ملحوقا كذلك ، من الأحاديث والتعليقات والتحقيقات والمناقشات والصور والاتصالات ، كأن مصر مقبلة على أعظم معركة لها فى تاريخها الحضارى ،وليس فى هذا مبالغة ، فقد كانت كل هذه المظاهر مصحوبة بأوصاف : مصر ذات حضارة السبعة آلاف سنة ..مصر العظيمة ..الفراعنة الأبطال ..مصر أكتوبر ..مصر رمسيس وصلاح الدين ومحمد على وجمال عبد الناصر ..مصر الأصيلة ..مصر أم الدنيا ...مصر الوحيدة التى ذكرت فى القرآن ...مصر التى احتضنت المسيح وأمه عليهما السلام ، فضلا عن الأناشيد : عظيمة يا مصر ..يا حبيبتى يا مصر .. مصر هية أمى ..متقولش إيه ادتنا مصر ، قول حاندى إيه لمصر ..



تم رهان تاريخ مصر كله ، وزعمائها وانتصاراتها ونكساتها وعلمائها ومثقفيها ،وكل أبنائها ، وأمهاتها وآبائها وعمالها وفلاحيها ، فى المعركة الكبرى ، إن انتصرنا فيها ، فهذه نتيجة طبيعية للعراقة المصرية التى لا مثيل لها ،وإن لا قدر لها حدث العكس ، فاسرع إلى البحث عن مؤامرة دٌُبرت بليل !!



وأنظر فى وجوه بعض حاضرى المبارة الأولى فى القاهرة ، فأجد رموز الحكم ، تركت كل هموم المصرييين لترى وتشاهد همهم الحقيقى فى كرة القدم ، حتى وزير الصحة الذى يعرف أن وباء يحصد العشرات يوميا ، فضّل أن يمكث فى الاستاد ساعتين على أن يتفرغ لصحة الثمانين مليون ، لأنها قضية تالية لقضية الكرة !



وكم أشعر باستحياء شديد – وربما بحسد عميق - وأنا أقرأ أن رئيس الدولة نفسه ، كان يتابع بالمكالمات التليفونية ، كل من له اتصال ذى شأن بالقضية القومية الكبرى ..الكرة ، حيث تذكرت وتساءلت : كم من العلماء والمفكرين حظوا بمثل هذا الاهتمام ؟ ونعود مرة أخرى لنتكر القاعدة الكبرى ، بأن العظام هم الذين يحلمون أحلاما عظيمة حقا !



كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عندما يعود من موقعة عسكرية ذات شأن فى التاريخ الإسلامى ، يقول : عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ! فهو يعتبر أن الحرب والقتال والموت فى سبيل الله جهادا أصغر ، أما الجهاد الأكبر فهو بناء الأمة ،وتنميتها ومقاومة الشرور ووساوس الشيطان وبناء القيم .



وعندما نادى المنادى المسلمين لموقعة عسكرية يدافعون بها عن دين الله ،وشعر أحدهم بأن ظروفه تحول بينه وبين نيل هذا الشرف العظيم ، حيث كان لديه أبوين عاجزين ، لابد أن يكون بجوارهما ، كان رد رسول الله : ففيهما فجاهد !



لقد صغرت مصر فى العقود القليلة الماضية ، بكل الأسى وبكل الأسف ، فغرق شعبها فى بحار من المآسى والشرور والكوارث ، فحق المثل القائل : الجعان يحلم بسوق العيش ..أصبح يحلم بنقطة ضوء ..أصبح يتوق شوقا إلى نافذة تجئ له بهواء غير ملوث ، وسُدت فى وجهه كل الطرق ، ما عدا طريق واحد ، ألا وهو كرة القدم ، فتعلقت بها الآمال القومية ، ورنت نحوها الأنظار الوطنية !



ألا يقتل على أسفلت الشوارع عدة آلاف من المصريين ، دون أن يحفل بهم أحد ؟



ألا تقتل القطارات عشرات المصرين سنويا ،وكل ما يتم من رد فعل لا يثمر ولا يغنى من جوع ؟



وهل يمكن أن ننسى أبدا غرق ألف وثلاثمائة مصرى ، دون أن يحظوا باهتمام القيادة السياسية ، مثلما حظى " الحضرى " ، يوم هربه للخارج ثم عودته ؟!



ألم تصبح العلاقات بين نظام الحكم وإسرائيل أقوى مما بينها وبين بعض الدول العربية والإسلامية ؟



ألم يكن المئات من الفلسطينيين يقتلون ويشردون ويجوعون ، ومصر لا تستخدم ما بيدها فعلا من حيث تجنب الكثير من ذلك ؟



ألم ترسل مصر قواتها المسلحة للعمل تحت القيادة الأمريكية ، لتحرر بلدا عربيا من بلد آخر ،ولما غزت القوات الأمريكية هذا البلد الآخر ، وقفت مصر لتتفرج ، ويقول البعض ، بل إنها ساهمت بقدر من التسهيل والتيسير ؟



ألا يعيش مئات الألوف فى المقابر ،وفى العشوئيات ، معيشة تقل عن معيشة الحيوانات ؟



ألا تنفق الكثرة الكبرى من الأسر المصرية مليارات الجنيهات ، للدروس الخصوصية ، تعويضا عن التعليم الفاشل الذى تقدمه الدولة فى المدارس ؟



ألا يشرب مئات الألوف من المصريين الماء مخلوطا بالمجارى ؟



ألا يوجد أكثر من 17 مليون مصرى ،ونحن قد دخلنا القرن الحادى والعشرين منذ تسع سنوات ، لا يقرأون ولا يكتبون ؟



ألا تنبئ أرقامنا على أن مصر تقف الآن فى مرتبة متدنية للغاية من حيث نسبة الإنفاق على البحث العلمى ؟



ألا يعجز المصرى عن أن يكون له رأى حاسم أو حتى ربع حاسم فى اختيار من يحكموه ؟



ألا يعجز المصرى عن أن يعرف : متى يتغير وزير ثبت فشله وعجزه ، ولماذا جاء فلان ،وذهب علان من الوزراء والمحافظين ورؤساء الصحف الحكومية ؟



لقد تحطمت الآمال الكبرى والمتوسطة للكثرة الغالبة من المصريين ،وفقدوا الأمل فى ، يغيروا أمرا ، حيث غلبهم القهر والجوع والفقر والمرض ، ثم وجدوا أن كسب مباراة أمر لا يدخل فى باب المستحيل ، فتعلق الثمانون مليون مصرى بهذا الانتصار الوحيد الممكن ، فلِم لا يفعلون ما فعلوا استعدادا للمباراة ؟ ولم لا يفعلون ما فعلوا بعد أن تحطم حلم وطنهم العظيم ، أم الدنيا ، ذات حضارة سبعة آلاف سنة ، الذى اختزلوا فيه كل أحلامهم عبر التاريخ ..أسفى عليك يا مصر ، عندما تعجزين حتى عن تحقيق هذا الحلم الصغير الذى لا يقيم حضارة ولا يقيم أمة يحفل بها التاريخ ؟!


ليست هناك تعليقات: